محبة الله تعالى شعبة من شعب الإيمان، وخصلة من خصاله الكثيرة، وهي دليل صادق على كمال إيمان المؤمن، وضعفها دليل على ضعفه، وزيادتها دليل على زيادته ... كما أن هذه المحبة حين تنفذ للقلوب والعقول فإن آثارها وثمارها تمتد إلى الآخرين، ومن ثم لا يكمل إيمان المؤمن حتى " يحب لأخيه ما يحب لنفسه" كما ورد في الحديث الصحيح.
ولكن ما معنى محبة الله تعالى في التداول الإسلامي؟ وبالضبط في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي؟ كيف نترجم هذه المحبة ونجعلها تؤثر في سلوكنا بشكل إيجابي ونملأ بها قلوبنا وعقولنا فنحيى حياة طيبة كريمة مطمئنة ونحب الآخرين ؟
ربما اعتقد البعض أن محبة الله تعالى هي ضرب من الميل العاطفي الذي تغنى به الشعراء قديما وحديثا والذي هو شعور وإحساس قد يعتري كل إنسان. غير هذا المعنى لا يليق بالله عز وجل، وفي هذا السياق يقول الإمام أبو عبد الله محمد بن خليل السكوني الإشبيلي:
" سمعت بعض الجهال يقول: نحب الله ويحبني الله، فقلت له: كما يحبُ الناسُ بعضهم بعضا ؟ قال: نعم. فقلت له أنت رجل جاهل، وإنما معنى " يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة : 54]" يريد ثوابهم وإكرامهم، ويريدون طاعته وعبادته وثوابه وإكرامه، لأن البارئ تعالى محال أن يميل أو يمال إليه، تعالى عن ذلك ... فترجع محبته وبغضه إلى إرادة قديمة فخص بها كرامة من أحب ونقمة من أبغض، هذا هو المعنى". (1)
وإذا كانت محبة الله تعالى تنصرف إلى معان كثيرة، فإن من علامة هذه المحبة اتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإيثار طاعته سبحانه وتعالى بالفعل في جميع أمره " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31]
لن نخوض في معاني المحبة كما خاض فيها المتصوفة على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم والذين لم يهتدوا إلى تعريف واضح لها أو الوقوف على وصف جامع توصف به، فاكتفوا بذكر عبارات مختلفة كثيرا ما تعبر عن أحوال خاصة ووجهة نظر معينة... ولكن الشيء الذي يؤكد عليه بعض العارفين المتشبعين بعقيدة أهل السنة والجماعة هو أن محبة العبد للخالق سبحانه وتعالى ليست ميلا، كيف وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة... " (2)
وقد ذهب الأستاذ القشيري وهو واحد من الذين صانوا تصوفهم عن البدع عن طريق تمثل أصول عقدية صارمة تستمد مضمونها من عقائد الأشاعرة، كما كتب في مقدمة رسالته في علم التصوف، إلى أن المحبة حالة شريفة، شهد الحق سبحانه بها للعبد وأخبر عن محبته للعبد، فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد، والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه ... ويفسر الأستاذ القشيري المحبة في هذا الموضع بالإرادة، وعلى هذا الأساس فمحبة الله تعالى للعبد إرادته الخير له، ورحمته به وإنعامه عليه. (3)
ومن المعاني الجميلة التي يشير إليها الشيخ العارف بالله محي الدين بن عربي في تفسيره عند قوله تعالى:" " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [آل عمران: 31] قال: لما كان عليه الصلاة والسلام حبيبَه فكل من يدعي المحبة لزمه اتباعه، لأن محبوبَ المحبوب محبوب، فتجب محبة النبي، ومحبته إنما تكون بمتابعة وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا، وسيرة وعقيدة، ولا تمشي دعوى المحبة إلا بهذا …" (4)
ومن معاني المحبة كما يذكر الإمام البيهقي:
أولا: الاعتقاد أن الله تعالى محمود من كل وجه، لا شيء من صفاته إلا وهو مدح له.
ثانيا: الاعتقاد أن الله تعالى محسن إلى عباده، منعم متفضل عليهم.
ثالثا: الاعتقاد أن الإحسان الواقع من الله تعالى أكبر وأجل من أن يقضي قول العبد وعمله وإن حَسُنا وكَثُرا شكره.
رابعا: أن لا يستقل (من القلة) العبد قضاياه، ويستكثر تكاليفه.
خامسا: أن يكون العبد في عامة أوقاته مشفقا وجلا من إعراض الخالق عنه. وسلبه معرفته التي أكرمه بها وتوحيده الذي حلاه وزينه به.
سادسا: أن تكون آمال العبد منعقدة به لا يرى في حال من الأحوال أنه غني عنه.
سابعا: الحرص على أداء الفرائض والتقرب إلي الخالق عز وجل من نوافل الخير مما يطيقه. (4)
نختم هذه المقالة بحكمة من الحكم العطائية التوحيدية الآتية:
" إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقةُ عبد لم تجعل له من حبك نصيبا".
قال الشيخ زروق في شرحه لهذه الحكمة:
" وحق لها العمى إذ لم تراقب من هو أقرب إليها من وجودها، ولم تشاهد تصرفه فيها وقيامه عليها ... إن من لم يحبه مولاه وكله لنفسه فهلك، ومن أحبه كفاه كل شيء فملك ... (5)
نسأل الله تعالى محبته ومحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومحبة من يحبهما.